منذ بداية القرن الماضي بدأت الحركة الصهيونية بإحلال اليهود محل العرب في فلسطين ، حتى قضمت في منتصف القرن الجزء الأكبر من الوطن ، ثم أعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل واعتبر يوم الإعلان هو البداية وليس النهاية ، بمعنى أن الجزء الذي حصل عليه اليهود وأقاموا عليه دولتهم ليس إلا نقطة انطلاق للوصول النهائي الى إعلان الدولة التوراتية من النيل الى الفرات ، وقد اختاروا العلم الإسرائيلي بشكله المعروف راسماً حدود تلك الدولة المنتظرة ، فالخطان الأزرقان هما النيل والفرات وبينهما نجمة داود التي ترمز الى الدولة ، ومنذ إعلانها الى هذا اليوم لم تعلن إسرائيل عن حدودها أبداً ، بل إنهم كثيراً ما عبروا عن ذلك بقولهم إن حدودهم تنتهي الى حيث يستطيع جيشهم أن يصل ! وقد يغترّ بعض العرب بما تم من صلح واعتراف بين مصر والأردن من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى ، ولكن واقع الأمر يشير الى أن إسرائيل لا تعترف بحدود بينها وبين الأردن وبينها وبين مصر إلا اعترافاً مرحلياً تكتيكياً ، وهم على أتم استعداد لاختلاق التبريرات لنقضه في أي وقت مناسب يرونه ، والدليل على ذلك هو تصريحاتهم المستمرة بأن الأردن هو الوطن الحقيقي للفلسطينيين ، وقد دأب الصهاينة منذ عام 1948 على نخر الجسد العربي كما ينخر السوس الخشب فتغلغلوا فيه من خلال الحرب والسلام المزعوم فقاموا من خلال الحرب باحتلال أجزاء من الجسد العربي ( سيناء والجولان والضفة والقطاع ) ، ثم قاموا من خلال الصلح مع نظام السادات بالتغلغل الناعم في كثير من البلاد العربية وزادوا من تغلغلهم بعد معاهدة وادي عربة مع الأردن . أما مفاوضاتهم مع السلطة التي أوجدوها باتفاق أوسلو فلا يعدو كونه كسباً للوقت لصالحهم ، يقومون من خلال هذا الوقت بضم الضفة شيئاً فشيئاً وبناء المستوطنات على أرضها ، ومن عجيب مكرهم ودهائهم أنهم يروجون لمقولات لا يصدقها عقل سليم ، وأعجب من هذا المكر أن الطرف الآخر العربي يردده كالببغاء !!! خذ مثلاً المقولة التي تقول ( قيام دولتين تعيشان جنباً الى جنب ) ، فمعنى ( قيام دولتين ) أن الدولتين ( وإحداهما هي إسرائيل ) لم تقوما بعد ، أما تعبير ( تعيشان جنباً الى جنب ) فتجد المفاوض العربي يرددها هو الآخر بحماس ، من باب أن هذا أمر طبيعي وأن الدول الجارة لا يمكن لها أن تعيش بعضها فوق بعض مثل أرفف المكتبات أو مثل عمارة من طابقين ، فهذا مخالف لأبسط قواعد الجغرافية .
فإذا أخذنا بعين الاعتبار ولع اليهود التاريخي بالمجادلات والذي يرجع الى عهد موسى عليه السلام حين أمرهم بذبح بقرة ( راجع سورة البقرة الآيات من 67 الى 73 ) ، ثم راجع تفسيراتهم لقرارات مجلس الأمن من عام 67 الى عام 73 وبخاصة تفسيرهم للقرار 242 الذي ترجموا فيه كلمة الأراضي المحتلة الى ( أراض ٍ محتلة ) ليتسنى لهم قضم ما شاءوا من كعكة الأرض العربية بقضمهم أل التعريف في الكلمة ، ثم دقة التعبيرات القانونية في اتفاق أوسلو والذي لا يعطي للفلسطينيين أي حق قانوني ، ومن قبل اشتراطهم على السادات بنزع سلاح سيناء وبتغيير السلام الجمهوري المصري ( والله يا زمان يا سلاحي ) حتى لا يكون سلاح ، لا في سيناء ولا حتى في السلام الجمهوري نفسه ! أما وضعهم هم للآية التوراتية التي تحدد حدود إسرائيل من النيل الى الفرات في باب الكنيست الإسرائيلي ورسمهم لهذه الحدود على العلم الإسرائيلي ، فلم يجدوا من العرب من يطالبهم بتغييره .
أما قصة ( الدولة اليهودية ) التي يطالبوننا بالاعتراف بقيامها من خلال مقولتهم ( قيام دولتين تعيشان جنباً الى جنب إحداهما يهودية والأخرى عربية ) ، فينوون من خلال اعترافنا بها أن يطردوا العرب الذين يعيشون في المناطق المحتلة منذ 1948 لأن وجودهم في ( الدولة اليهودية ) لا يستقيم وكونهم غير يهود ، وأما مقولة ( تعيشان جنباً الى جنب ) فهي مقصودة أيضاً وليست مجرد تعبير أجوف أو زلة لسان ، ذلك أن الجزء الشرقي من الضفة الغربية والذي يقع على حدود الأردن قد تم التهامه بالمستوطنات اليهودية على طول الخط الفاصل بين الضفة والأردن ، إضافة الى مناطق عديدة في عمق الضفة أقيم عليها العديد من المستوطنات والتي أكبرها مستوطنة الخان الأحمر التي يسمونها ( معاليه أدوميم ) وهي في حقيقتها مجموعة مترابطة من المستوطنات تبدأ من قرب أريحا وتنتهي عند مشارف القدس . ومن ينظر الى خريطة المستوطنات اليهودية في الضفة يجد أنها تحيط بالضفة من جميع الجهات مما يجعل الضفة جزيرة صغيرة محاطة ببحر من اليهود ، وهذا أمر واقع فرضه الصهاينة بالقوة وبالمراوغة في استخدام المفاوضات لكسب الوقت ليس إلا . فإذا كان حال الضفة كما ذكرنا فإن تعبير ( جنباً الى جنب ) لا ينسجم مع الواقع المفروض ، لأن الضفة لم تعد ( جنب ) الدولة اليهودية بل في وسطها . ولما كان المفاوض الفلسطيني يردد هذا التعبير ( جنباً الى جنب ) بطرب كما يغني ( تعال جنبي ) فإن ( الجنب ) الذي سيعرضه اليهود في أية مفاوضات قادمة هو ( الجنب ) الأردني على حساب الأشقاء في الأردن . لأن تعبير ( تعيشان جنباً الى جنب ) لا ينطبق إلا على الأردن . ويبدو أن هذا المشروع الخبيث كان أول ملف سيفتحه جون ماكين الجمهوري في حال فوزه في الرئاسة الأمريكية ، أما وقد خسر الانتخابات فقد يتأخر الإعلان عن هذا المشروع أو يتم الضغط على أوباما لتنفيذه .
من هنا نحذر بأن موافقة أي عربي على مثل هذا المشروع الصهيوني الخبيث يعني ضياع فلسطين وانشقاق الصف العربي الذي لا يحتمل انشقاقات أكثر مما هو عليه ، وهذان الأمران هما هدفان استراتيجيان لإسرائيل . فهي تريد أن تدفع للفلسطينيين ثمن فلسطين من الجيب الأردني وتريد للشعب العربي أن ينقسم على نفسه بعد أن انقسمت قياداته على نفسها . فهل من مدّكر؟